الأنــــا والزمن والمكان والفضاء
مهمـــا ابتعد الإنسان، في فكره وخيالاته، عن الواقع؛ سيعودُ عاجلا أم آجلا للواقع الأرضيّ، فهو، بجسده، ملصوقٌ كالمسمار على هذه الأرض، وملصوقٌ بجسده أيضا. فهو، بالنسبة إلى جسده، محدود لا يقوى على الخروج منه ( فهو يشبه الصمغ الذي نلتصقُ به )، ومن جهة النفس والروح، هو يذهبُ بعيدًا في فكره وخياله للبعيد، لآخر ليس من الواقع الأرضيّ، لأمر ٍ شموليّ كبير يعطيه سرّ كيانه .
نرى الإنسان، مهما عملَ، ومهما دَرسَ وتعلّم وتثقّف، ورقصَ حتى الصباح، ذائبـــًا في رفاهيّة لحظويّة ونشوة ٍ، سنراه، في اليوم التالي، كئيبـــــًا وحزيــــنا _ كأن هناك في فمه طعم مرارة… !
الرفيق، والصديق، والحبيب، والزميل، والقريب، والغريب، كلّ هؤلاء، وإن رافقوا دربَ الإنسان في خطوات حياته اليوميّة، سنراه أيضا، في مرّات كثيرة، غير مكتفي وغير راض ٍ عن حياته، فالطعم المرّ في فمه سيستمرّ، ويستمرّ الإحباط والضجر والفراغ _ فراغ الأنا .
هل وجود الأنا هو وجودٌ مفتوح أم وجود مغلقَ ؟!
وعندما نقول مغلق، فهو مغلقٌ من جهة الشموليّة الكبيرة التي سنرى مَن هي ! وإن كان مفتوحا، فهو وجودٌ مفتوحٌ على الشموليّة التي، هي فقط، ستعطيه طعمَ الحلاوة وستكشفُ ” أناهُ ” .
” في البدء كان الكلام … ” ، يقول الإنجيليّ يوحنا في بداية إنجيله .
هذا البدء الذي لا يمكننا العبور فوقه وإستباقه، فهو مَن يسبقنا دائمًا، لا نقدر أن نبدأ من نقطة ” صفر “، نقطة ” الأصل – البدء “، فهناك دائمًا السبّاق الذي يسبقنا دائمًا، فهو أسرعُ منــــّا. ولهذا، هذا الوجود المفتوح، هو وجودُ الكلام الحيّ، الكلام الناطق، الكلام الخالق، الكلام الحرّ، الكلام الفعّال، الكلام المتجسّد في التاريخ، لإعطاءه قيمة ً ووزنــــًا ومعيارًا ثقيلا، يوزنُ كلّ كائن ويعطيه قيمة ً ووزنـــــًا، وكثافة حقيقيّة .
بلا هذا الكلام الحيّ، وجودنا يبقى مغلقـــــًا على السلبيّة والعتمة والظلّ … ولهذا، يُكمل الإنجيليّ يوحنا ويقول: الكلمة كان نورًا للناس ” … هذا النور الحيّ الذي سمعناه ولمسناه …. فلقد لمسَ النور، وعاشَ في النور، لا في الظلمة.
إذن، الأنا يبقى مغلقــــًا، ويبقى بلا قيمة ً ووزنــــًا إن هو إكتفى بالبقاء في سطحية الأمور الأرضيّة فقط .. فهو، لكي يكونَ ذا وزن وقيمة وثقل، عليه أن لا يضع أمله ورجاؤه في شيء فارغ سلبيّ. بل أن يقفز للشموليّة.
سيظلّ طعم المرارة المؤلمة مستمرّة، لأنه ” لم يدخل إلى غرفته الداخليّة لكي يكتشفَ ما فيها، ويُــنير الظلام المؤلم فيها. وهذا لا يمكننه لوحده أن يفعلها، إلا بمساعدة هذا الكائن الشموليّ الذي يعطيه الوحدة من إنقساماته الداخليّة ومن القلق الوجوديّ .
إن هدأت أفكاري وعواطفي وخيالاتي، وجلستُ في غرفتي الداخليّة، سأكتشف منطقة عميقة في داخلي، لم أتصوّر بأني سأكتشفها أبدًا. إنها منطقة ” تدعوني “، إنها منطقة الدعوة العميقة. منطقة يسمّيها علماء النفس ” اللبّ – القلب – الأنا العميق “، ليست منطقة قشرة وسطحيّة، بل هي منطقة، يسكنُ فيها شخص شموليّ كبير ، يقال إن اسمه “الله”.
لن أعرف إسمه الحقيقيّ أبدًا، لانه ليس في متناولي الآن. لكني سأعرفه تدريجيّا. إنه يدعوني بإسمي الحقيقيّ (الذي أخذته في المعموديّة) . كم جميلٌ إن ذهبتُ إلى مكان ٍ واسع مليءٌ بالبشر، وفجأة يراني شخص من بعيد ويناديني بـــ إسمي ! .. سأفرحُ كثيرًا. فكيف لو كان الله هو مَن يناديني بإسمي … كثيرون يسدّون أذانهم لصوته، فهؤلاء سيبقون في ” الظلمة البرانيّة “، وفي ” طعم المرارة ” ، وفي ” البؤس المميت ” ، بؤس النفس والجسد والروح ” .
نداء عميق يصرخُ فيَّ … وهذا النداء، يقولُ عنه بولس الرسول: إنه الروح يئنُّ فينا بأنات لا توصف … إنه يصرخ، وكأنه محبوس في “قفص”…! هذا هو سبب المرارة المؤلمة التي ستستمرّ في فمنا، لأننا وضعنا الله في زاوية مظلمة من حياتنا وحجبنا نداءاته لنا، فهو فقط مَن سيعطيني طعمَ الحلاوة ويبعد السلبيّة من حياتنا .
صحيحٌ أنا أسكنُ في جسدي، وأني محدود جدا وملصوقٌ بجسدي في الأرض، لكني إن نظرتُ إلى هذا العالم والكرة الأرضيّة من خلال تلسكوب هابل الرهيب ، سأكتشف الروعة. سأكتشفُ أنّ الأرض، من خلال تلسكوب هابل، هي ذرّة رمل لا بل أصغر من الذرّة الرمليّة وقطرة الماء … وأنا في داخل هذه الذرّة ! … الله، رغم هذا يحبّني ويعرفني وأني أهمّ من الفضاء ومن الأرض ومن الزمان ومن المكان … والسبب هو : الكلمة صارَ جسدًا وسكن بيننا …” . ليس بسبب ” سواد عيننا “، بل لأنه، هو، محبّة ودعانا للحياة .
الإنسان، الأنا؛ من خلق الله. لقد خلقَ الأنا على صورته ومثاله. ولهذا، فالإنسان، كالله، لا محدود . محدودٌ في جسده لأنه ملتصقٌ بالأرض والتراب، لكنه، من جهة الروح والشخصانية، غير محدود. لأن الله شخص ـ الإنسان شخص. نستطيع هنا فهم سرّ شخص يسوع المسيح. إنه إنسان حق وإله حقّ. وبه فقط، نستطيع أن ندخل في سرّ الله وفي سرّ الإنسان، وفي سرّ الثالوث. الثالوث فقط يفهمني مَن أنا ؟ فهو يدخلني في الماضي والحاضر والمستقبل .
فــ ” أنا “، مرتبطٌ بهذا الشموليّ العظيم. وهذا هو سرّه الحقيقيّ وسرّ حياته. بدونه، سنضيعُ في متاهة كينونتنا، ونسقطُ في دوّامة الشلل والغيبوبة ونفقد طعم حياتنا، ونظلّ نمضغ سلبيّات ومرارات وفراغ وعزلة . فالنداء الإلهيّ داخلـــنا ، ونحنُ نعيش خارج ذاتنا…!
الكاتب: عدي توما عاشا
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | ||
6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 |
13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 |
20 | 21 | 22 | 23 | 24 | 25 | 26 |
27 | 28 | 29 | 30 | 31 |