سيرة حياة البطريرك إغناطيوس بطرس شاهبادين (1678 – 1702)
حياته
ولد بطرس شاهبادين عام ١٦٣٦، في مدينة الرها، المعروفة اليوم بمدينة أورفه. والده الشماس عبد الأحد بن سفر شاهبادين. ويعرف أيضًا ب “بطرس الرهاوي” نسبة إلى الرها، المدينة التي ولد فيها. انخرط وهو في سن مبكرة في الحياة الرهبانية، حيث انضم إلى رهبان دير مار أبحاي. وفي سن الثانية والعشرين (١٦٥٨) منح سر الكهنوت المقدس. وبعد أربع سنوات من هذا التاريخ، أي سنة ١٦٦٢، رّقاه البطريرك إغناطيوس عبد المسيح الأول – وهو خاله – إلى درجة الأسقفية، وعينه أسقفًا على أبرشية القدس.
يخبرنا المؤرخان إسحق أرملة وفيليب دي طرازي، أّنه غادر أبرشيته سنة ١٦٦٣متوجهًا إلى بلاد الهند، بأمر من البطريرك إغناطيوس عبد المسيح الأول، ليرد الملبار أو الشعب الهندي، الذي يتبع الطقس السرياني إلى حظيرة الكنيسة السريانية الأُم. فقام بمهامه خير قيام. لكّنه لما عاد إلى بلاده، صرّح لخاله البطريرك بميوله الكاثوليكية.
ميوله الكاثوليكية
إن المهام التي أوكلها البطريرك عبد المسيح الأول إلى الأسقف شاهبادين، فتحت له الباب على مصراعيه للتعرف بالكثلكة بشكل أوسع مما كان يعرفها. وكذلك مجيئه إلى حلب لجمع التبرعات، لسد العجز في ديون أبرشيته. وإقامته عند البطريرك أندراوس أخيجان، واحتكاكه بالآباء المرسلين، وخاصة الأب اليسوعي أنطون رستو. إن كلّ هذه العوامل، جاءت مجتمعة لتشد من عزيمة هذا الأسقف، لإعلان كثلكته بين يدي البطريرك أندراوس أخيجان، سنة ١٦٦٤, بحيث تلا دستور الإيمان الكاثوليكي، وأعلن اعترافه بالكثلكة.
البطريركية
إن زيارة المطران غريغوريوس بطرس شاهبادين إلى حلب، ولقاءه مع البطريرك أندراوس أخيجان، فتحت له صفحة جديدة في عمله الكنسي. إذ إن البطريرك المذكور توسم فيه خيرًا للكنيسة السريانية الكاثوليكية. ولما مرض البطريرك أندراوس أخيجان، وأحس بدنو أجله، قال لمن حوله، لن تجدوا من بعدي خلفًا عليكم يرعاكم باستقامة مثل السيد غريغوريوس بطرس شاهبادين فأشير عليكم بأن تقيموه بطريركًا عليكم.
غادر البطريرك أندراوس أخيجان هذه الدنيا، منتقلاً إلى الأخدار العلوية، في ١٨ تموز ١٦٧٨ وفورًا أسرع أعيان الكنيسة السريانية ووجهاؤها بحلب بالكتابة إلى المطران غريغوريوس بطرس شاهبادين، طالبين منه الحضور إلى حلب، لينّفذوا في شخصه وصية سلفه البطريرك أخيجان. وأّنهم انتخبوه ليكون بطريركًا عليهم. وفي هذه الأثناء كان المطران شاهبادين، يتجول في أنحاء الموصل لعمل ما. وحال بلوغه الخبر، استعد للذهاب إلى حلب.
لكن وعكة صحية ألمت به، فوقع طريح الفراش، وتأخر عن السفر. لكن البطريرك إغناطيوس عبد المسيح الأول، استغلّ موت البطريرك أخيجان، فتوجه إلى حلب وتسّلم الكنيسة، مستميلاً إليه بعض أبناء الطائفة، بأن أطلق عليهم وعودًا كاذبة.
أجاب المطران غريغوريوس بطرس شاهبادين الحلبيين بقبوله نتيجة انتخابهم له بطريركًا عليهم. وقال لهم: قبلت ذلك رغبة في خير طائفتنا العزيزة وخلاصها وحرمة للسيد المتنيح، ولكن حذرًا من أذى المقاومين أشترط عليكم أن تشدوا أزري باستحصال أوامر سامية حسب سابق وعدكم. فاستصوبوا كلامه وكتبوا محضرًا باسم الإكليروس والشعب، أجمعوا فيه على أّنهم يريدونه بطريركًا. وعرضوه على أولي الأمر، فصدقوه بختومهم. وهنا عزم الآباء المرسلون على مساعدة الكنيسة السريانية بهذه المهمة. فسافر الأب جوستان دوتور الكبوشي إلى العاصمة العثمانية، حيث السلطان. فنال منه البراءة السلطانية، بتعيين بطرس شاهبادين بطريركًا على الكنيسة السريانية الكاثوليكية. أما الأب ميخائيل نو اليسوعي، فقد سافر إلى باريس، لطلب المساعدة المادية من ملك فرنسا. وكذلك زار مدينة روما، لطلب درع التثبيت من البابا للبطريرك الجديد. لكن مساعي الأب نو، باءت بالفشل، ولم يستطع تحقيق أي منها. فسافر الأب دو تور مباشرة من العاصمة العثمانية لمساعدة صديقه الأب نو في روما وباريس. فتكّللت مساعيه بالنجاح، وعاد الاثنان إلى الشرق محملين بالوثائق اللازمة للبطريرك الجديد.
بينما كان المرسلان اليسوعي والكبوشي، يقومان بالمهام اللازمة، من أجل البطريرك الجديد، كان الشعب السرياني والأساقفة، يحتفلون بتنصيب البطريرك إغناطيوس بطرس السادس شاهبادين. وقد شارك في حفل التنصيب، كلّ من المطران بشارة دبك أسقف حمص، المرتد حديثًا إلى الكثلكة، والمطران يشوع مصرشاه، أسقف أورشليم، والمطران رزق الله أمين خان، أسقف حلب. وكان ذلك كّله في أواخر سنة ١٦٧٨ وفي ١٢ حزيران ١٦٨٠, وصل درع التثبيت البابوي إلى البطريرك، فقامت فرحة في حلب بهذه المناسبة.
ففي ٢٨ آب ١٦٨٠ احتفل البطريرك الجديد بالقداس الإلهي، متقّلدًا درع التثبيت. وقد شارك في هذا القداس عدد كبير من أبناء الشعب الحلبي، بالإضافة إلى رجالات الدين المسيحي، وعلى رأسهم المطران فرنسوا بيكه، الذي كان سابقًا قنصلا لبلاده فرنسا بحلب.
أعماله البطريركية
منح البطريرك إغناطيوس بطرس السادس شاهبادين رتبة الكهنوت عددًا من الكهنة، نذكر منهم: الشماس سفر الهدايا المارديني، ابن حّنا العّطار – عبد الله بن بيشاي نعمة الله ابن الخواجا قدسي – سليمان بن سفر خور – عبد الأحد بن سفر, ( وهو شقيق البطريرك ).
كما منح درجة الأسقفية عددًا من الأساقفة، نذكر منهم، يشوع مصر شاه لأورشليم –رزق الله أمين خان لحلب – إسحق بن جبير الموصلي لديار بكر.
الاضطهاد
عاش البطريرك إغناطيوس بطرس السادس شاهبادين مراحل اضطهاد أليم، من إخوته السريان الأورثوذكس، الذين رفضوا الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكية. وقد قررنا أن لا ندون ما يخص هذه المرحلة العصيبة التي عاشتها الكنيسة والبطريرك معًا. وخاصة أّنها أصبحت مرحلة منسية من الجميع. والجميع يتطّلع إلى غد مشرق، وعيش هنيء. لكن لا بد من الإشارة إلى أن البطريرك شاهبادين، خاف على قبر سلفه البطريرك أندراوس أخيجان، من أن تنبش عظامه وتدّنس. لذلك قرر سنة ١٦٩٦ أن يضعها في صندوق، ويهرب بها إلى روما، حيث أودعها في قبر في كنيسة مار يوحّنا اللاتيران بروما.
ومكث فترة في روما، ثم توجه بعدها إلى فيّنا، حيث قابل الملك ليوبولد، ملك النمسا، ليشكره على مساعدته له لنيل البراءة السلطانية بحّقه على الكنيسة السريانية بحلب. ومن هناك توجه إلى عاصمة السلطنة مع سفير النمسا. وبعدها توجه إلى طرابلس، ثم إلى حلب، التي وصلها في آذار ١٧٠١.
لكّنه سرعان ما عزل من منصبه للمرة الخامسة، في ٢٤ آب ١٧٠١ ، وسيق إلى السجن عند باب قنسرين، ووضع في مكان ضيق ومظلم. كما سيق معه المطران رزق الله خان – مطران حلب، والكهنة: نعمة قدسي – عبد الأحد بن سفر شاهبادين – سليمان ابن الخوري توما – أرسان ابن الخوري توما – الربان سفر بن عبد الله – الربان عبد النورابن شكر الآمدي، بالإضافة إلى عدد من العلمانيين. وقد مثل الجميع أمام القاضي، الذي أمهلهم ثلاثة أيام لدفع الرشوة لإخلاء سبيلهم.
لكن الأيام الثلاثة مرت، ولم يستطع البطريرك ومن معه تأمين هذا المبلغ. فقرر القاضي ضربهم ثمانين ضربة بالعصي. ثم نفوهم إلى قلعة أضنة. فرحلوا إليها مشيًا على الأقدام في رحلة دامت ثمانين يومًا، مقيدي الأيدي والأرجل. ووصلوا القلعة المذكورة في ٢١ تشرين الثاني ١٧٠١. وبعد ساعتين من وصولهم، توّفي المطران رزق الله خان. فنقل جثمانه من القلعة، وصّلي عليه ودفن في مقبرة الأرمن في إسطنبول.
الرحلة الأخيرة
بدأت قوى البطريرك إغناطيوس بطرس السادس شاهبادين، تحّط شيئًا فشيئًا، حّتى عادت لا تتحمل أية مشّقة. وفي آخر شهر شباط عام ١٧٠٢, طلب من الأب نعمة قدسي أن يعرّفه، بعدها تلا الجميع صلاة “تشمشت “(خدمة العذراء مريم). ولم تمضِ أيام قليلة حّتى فارق الحياة، بعد أن أملى وصاياه على المساجين الذين معه. كما حّثهم على الصبر والثبات. على إيمانهم الكاثوليكي. وكان ذلك في الرابع من آذار لسنة ١٧٠٢وعند ظهيرة يوم ٥ آذار ١٧٠٢، نُقل جثمانه الطاهر إلى كنيسة القديس إسطفاُنس للأرمن حيث ترأّس الصلاة بطرس جاثليق سيس للأرمن بمشاركة أساقفة الأرمن وكهنتهم.
وبعد ذلك دفن البطريرك الشهيد في قبر مجاور للمطران رزق الله خان في مقبرة الأرمن.
نداء
هذا هو البطريرك إغناطيوس بطرس السادس شاهبادين، الذي حمل إيمان آبائه وأجداده إلى بلاد الهند. ثم اعتلى السدة البطريركية. ودافع بإيمانه عن معتقده الكاثوليكي.
واحتمل أشد العذابات، وأُنزل عن منصبه خمس مرات، ذاق فيها طعم الموت، إلى أن شرب كأسه ومات شهيدًا لإيمانه. ويا ليت من يتوّلى في الكنيسة السريانية الكاثوليكية دعوى تطويب، أو تكريم، هذا البطريرك القديس الشهيد، فخر الكنيسة السريانية، وشهيدها الأعظم.
الكاتب: الدكتور جوزيف كحّالة
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |