سيرة حياة الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل
نشأته ودعوته الرهبانيّة
أبصر ميخائيل النور سنة 1858 في قلعتمرا (مختصر لفظة “مارا” السريانيّة أي السيّد)، وهي قرية صغيرة وادعة تطلّ عليها قلعة أثرية متهدّمة قائمة على قمّة جبل. تمتدّ في وادٍ خصبٍ من سلسلة جبل طور عابدين، تقع بالقرب من ماردين ودير الزعفران التاريخي.
اصطبغ ميخائيل بمياه العماد المقدّس في الكنيسة السريانيّة الارثوذكسيّة، في الأوّل من شباط 1859 عشية عيد دخول المسيح إلى الهيكل.
ترعرع وسط عائلة متأصّلة في الايمان وحبّ المسيح وخدمة مذبح الربّ. كان شقيقه الأكبر كاهنًا متزوجًا ورعًا يحمل عبء عائلةٍ كبيرة ويخدم النفوس في الكنيسة السريانيّة الشقيقة في قلعتمرا. ثم تبع مثال أخيه وانضمّ إلى الكنيسة الكاثوليكيّة.
والدته سيّدة من مدّو، ابنة كاهن يدعى ميخائيل زيتون، وشقيقها ملكي كاهن، وجدّهما كاهن أيضًا. لبثت متمسّكة بتقاليد كنيستها السريانيّة ولم تتبع ابنها الكاهن ميخائيل حتى قضت شهيدة الايمان على يد الاتراك الظالمين.
في هذا الجوّ العائلي المفعم بالإيمان وروح الخدمة، نشأ الشاب ميخائيل وتشرّب من والديه الفضائل الانجيليّة. وفي سنّ العاشرة أرسله والده حنّا إلى دير الزعفران ليكتسب ما تيسّر له من العلوم التي كانت تدّرس فيه. وإذ بلغ الثمانية عشرة من العمر نزعت نفسه إلى الحياة الرهبانيّة، فانضمّ إلى عداد رهبان دير الزعفران. وتعلّم العربية والسريانيّة والتركيّة ومكث في الحياة الرهبانيّة عشر سنوات.
سنة 1879 رقّاه البطريرك بطرس الرابع، إلى رتبة دياقون “شماس إنجيلي”، وكلّفه بتعليم الرهبان الجدد، وولاه الحفاظ على مكتبة الدير العامرة بالمخطوطات الثمينة والمطبوعات النادرة. وإذ كانت تربطه صداقة متينة مع القس متى أحمر دقنو الوكيل البطريركي على كرسي ماردين للسريان الكاثوليك، ذهب إليه يسترشده. ثمّ أخذ يتردّد لزيارته، ويفضي إليه رغبته في الانضمام إلى الكنيسة الكاثوليكيّة. فأشار عليه القس متى أن يخلد إلى الصلاة ملتمسًا أنوار روح القدس ليرشده إلى ما يجب عمله، كما أنار السبيل لبولس الرسول في طريقه إلى دمشق.
دخوله ديرالشرفة، دروسه، وسيامته الكهنوتية
دخل دير الشرفة بتاريخ 9 تشرين الآوّل 1879، وبعد سنة ونصف من الدراسة اللاهوتية والكتابية، رغب في الحياة الرهبانيّة الرسولية، فطلب الانضواء إلى الأخوة الأفرامية التي أسسها البطريرك جرجس شلحت في ماردين، فتلا صورة النذر في 17 أيلول 1882 بين يدي القس أفرام أبيض، رئيس الدير. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تلاميذ دير الشرفة الأبرشيين كانوا ينذرون، إلى جانب نذريّ العفّة والطاعة، نذرًا هو هبة ثلث ما يخلّفون من مقتنيات للدير بعد موتهم. أمّا عضو الأخويّة الأفراميّة، فكان يتبرّع لديره في ماردين بكلّ ما يخلّفه من متاع.
أقام الشمّاس ميخائيل في دير الشرفة نحو ثلاثة أعوام ونصف، وغادره في 21 نيسان 1883 متوجهًا إلى حلب، حيث رقّاه البطريرك جرجس شلحت في 13 أيّار 1883 إلى الدرجة الكهنوتيّة على اسم الأخويّة الأفراميّة.
خدمته الكهنوتيّة:
عندما اقتبل الراهب الافرامي ميخائيل ملكي سرّ الكهنوت المقدّس في الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة، لم ينسَ التربية الرهبانيّة التي كان قد تلقاها في دير الزعفران والذي باقي له شاكرًا طيلة حياته.
مباشرة بعد سيامته الكهنوتية، عيّنه البطريرك شلحت مدبرًا ومعلمًا للرهبان المبتدئين في دير مار أفرام بماردين.
لم يمكث الأب ميخائيل طويلاً في مسقط رأسه، لأن مطران أبرشية دير بكر ماروثا بطرس طوبال، طلبه ليكون مساعدًا له، فانطلق بكلّ ابتهاج متفانيًا في تطبيق الشعار والهدف الذي كان يردّده في مراسلاته: “وقفت نفسي للرسالات”.
مجازر 1895 واستشهاد والدته
إنّ المجازر التي أثارتها الدولة العثمانيّة بتحريضها العشائر الكرديّة في ديار بكر وقراها في خريف 1895 على الارمن وسائر المسيحيين، لم تمنع الأب ميخائيل من متابعة رسالته، وقد شملته العناية الربانيّة برعايتها، فنجا من أيدي السفّاحين بأعجوبة. وبقيت أمّه في عيسى بوار القريبة من ديار بكر، حيث قضت شهيدة على أيدي الظالمين الذين أرغموها على الإسلام، فرفضت بقولها: “وكيف أنكر دينًا قد حافظ عليه آبائي وأجدادي؟ فإني لأؤثر الموت على أن أنكره، وإنّي كاثوليكيّة لم أصِر، فكيف أصير مسلمة؟” فقُتلت ورُميت جثّتها في أحد الأبيار.
انتقاله للخدمة في مسقط رأسه، قلعتمرا
في أوائل عام 1899، جاء إلى مسقط رأسه بدعوة من البطريرك رحماني، لم يكن للسريان كاثوليك من وجود في هذه القرية قبل اهتمام القس ميخائيل في اجتذاب عائلته التي كانت على أشدّ التعلّق بكنيستها. وإذ لم يكن له بيتٌ يسكنه في الرعيّة، اضطرّ إلى الإقامة في بيت أخيه القس إيليا.
استأجر بيتًا صغيرًا جعل منه مكانًا للصلاة يقيم فيه الفروض الطقسيّة، ومدرسةً يجمع فيها الأولاد ويلقي عليهم الدروس. وكان قلبه يفيض بالبهجة عندما يسمعهم يرتّلون، كما يقول: “لا يمكنني ردّ مطلوبهم ولو وصلت إلى آخر مرحلة من العوز…”.
ازداد عدد المؤمنين، فرأى الراعي أنّه لا بدّ من كنيسة تجمعهم لقضاء فروضهم الدينيّة. وبعد ثلاثة أشهر من العمل المتواصل،كتب يبشّر البطريرك بأنتهاء البناء.
رسالة الجزيرة
في 25 آذار 1902 دخل الخوري ميخائيل جزيرة ابن عمر، وتولّى فيها النيابة البطريركيّة. كانت المدينة تعدّ 32 عائلة من السريان الكاثوليك. أمّا عدد سكانها فيناهز 25000 نسمة، والمسيحيون فيها يقارب 100000 نسمة.
ابتدأ الوكيل البطريركي رسالته في الجزيرة بإنعاش الحياة الروحيّة بين أعضاء إكليروسه، فكان يجمعهم لتلاوة الصلوات الخورسية، وقدّ أسّس في رعية الجزيرة أخوية للرجال وللنساء، فكان يلقي على أبناء الرعيّة رياضة روحيّة مرّتين في السنة، معتبرًا أنّ أساس النجاح في كلّ عملٍ رسولي يجب أن يهدف قبل كلّ شيءٍ إلى تمجيد الربّ وطلب نعمته وقوّته. كما علّم السيّد المسيح: أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه، وكلّ شيءٍ تزدادونه.
من كتاب المطران فلابيانوس يوسف ملكي، منشورات أنطاكية للسريان الكاثوليك- دير الشرفة، لبنان 2015.
لقد تكلّمنا في الجزء الأوّل عن نشأته ودعوته الرهبانيّة والكهنوتية ودخوله إلى دير الشرفة ورسالته في مسقط رأسه والجزيرة واستشهاد والدته…
اليوم سوف نتكلّم عن: خدمته في ماردين وسيامته الاسقفية في لبنان ووصيته الاخيرة واستشهاده.
وكيل بطريركي في ماردين:
فيما كان الخوري ميخائيل يجاهد لتذليل تحدّيات رسالة الجزيرة، إذ برقيم بطريركي يتسلّمه، يقلّده بموجبه الوكالة البطريركيّة على مرعيث ماردين، عوضًا عن المطران يوحنّا معمر باشي. الطاعن في السنّ، مع الحفاظ على صلاحيته في أبرشية الجزيرة. ويكلّفه بتشييد بناءٍ جديد للكرسي البطريركي. وقد تقبّل الأمر بروح الطاعة التي عُرف وامتاز بها مسلمًا ذاته لمشيئة الربّ.
تقوم مدينة ماردين على كتف جبلٍ شامخ تعلوه قلعةً تاريخيةٌ منيعةٌ تطلّ على سهول دارا ونصيبين، وتمتدّ إلى القامشلي ورأس العين في سورية., اسمها مشتقُّ من الآرامية، وتعني الحصون. دُورها مبنيّة من الحجر الأبيض والأصفر المنحوت، تنحدر متراصّةً إلى سفح الجبل. طيّبة المناخ، تمتدّ في شمالها بساتين اللوز والاجاص والكرز والكروم والحبوب. أشهر غلاّتها السمن والصوف.
قدّر أحد المرسلين عدد سكّان ماردين سنة 1900 بنحو 35000 نسمة، نصفهم من المسيحيين، أي 162000 من سريان وكلدان وأرمن، أمّا الأب أرملة فيقدّر عدد المسيحيين سنة 1914 بعشرين ألف نسمة، منهم 6000 سريان كاثوليك.
إنتقل الخوري ميخائيل إلى ماردين في أوائل أيّار سنة 1911 ليباشر مهامّه الجديدة، فكان، بموجب الصك البطريركي، راعيًا لكهنة ماردين، ومدبرًا لأوقاف الأبرشية، ومراجعًا الدوائر الحكوميّة، وساهرًا على حسن سير مدرسة الطائفة.
سيامة الخوري ميخائيل ملكي مطرانًا على جزيرة ابن عمر
وجّه البطريرك الرحماني رسالةً إلى البابا القديس بيوس العاشر، مؤرخةً في روما بتاريخ 10 تموز 1911، يشيد فيها بصفات الخوري ميخائيل ملكي ومناقبه وتفانيه في الخدمة الكهنوتية وأهليته للأسقفية، وقد خطّها بالإيطالية، وفيما يلي ترجمة أهمّ فقراتها:
“إنّ الخورأسقف ميخائيل ملكي ذائع الصيت بتفانيه وشغفه في الخدمة الكهنوتيّة، إلى جانب سعيه الدؤوب لتحقيق الوحدة الكاملة مع الكنيسة السريانيّة الارثوذكسيّة، وهو يتقن اللغات العربية والسريانيّة والتركيّة والكرديّة.
كما أنّه معتاد على تحمّل المشقّات في هذه المناطق النائية حيث تعسر الخدمة. هذا وإنّ الكهنة والشعب في الجزيرة ينادون به بإلحاح أسقفًا عليهم”.
وقد جاء الردّ ببراءة بابوية صادرة بتاريخ 14 أيلول 1912، تؤكّد تعيينه مطرانًا، وجاءت موقّعة من أمين سرّ حاضرة الفاتيكان الكردينال ميري ديل فال.
وهكذا عيّن البابا القديس بيوس العاشر، بصورة استثنائيّة، الخوري ميخائيل ملكي، مطرانًا على كرسي الجزيرة. وجرت مراسيم الأسقفية في كاتدرائية مار جرجس في الخندق الغميق في مدينة بيروت بتاريخ 19 كانون الثاني 1913، واتخذ المطران الجديد اسم الشهيد مار فلابيانوس، رئيس أساقفة أنطاكية (498-512) شفيعًا لأسقفيته كمألوف عادة الاحبار السريان، وشعارًا كتابيًا:”على كلمتك أُلقي الشبكة” (لوقا 5: 5).
الوصية الأخيرة واستشهاده
بعد سنةٍ وستّة أشهر من أسقفيته، أعلنت الحرب العالمية الأولى في حزيران 1914، حرب عالمية طاحنة دخلتها تركيا إلى جانب ألمانيا، حرب جرّت الويلات والمجاعات والآوبئة على العالم، وبالطبع عانى المطران ملكي كسواه من الضائقة المعيشية الخانقة.
عندما استلم حزب “تركيا الفتاة” دفّة الحكم في تركيا، أصدر الأوامر بالتخلّص من المسيحيين، معتبرًا إيّاهم خونةً متآمرين على الدولة التركية.
في حزيران 1914، ابتدأت مجازر المسيحيين في ماردين وضواحيها. وبعد شهرين، امتدّت مأسيها إلى جزيرة ابن عمر. علم المطران ميخائيل ملكي أنّ أجله قد دنا، ولم يرغب في النجاة، لأنّه أراد البقاء مع أبناء رعيته، محتملاً معهم ما يعانونه من صنوف الويلات والضيقات، مسلمّا أمره إلى تدبير الربّ وعنايته، عملاً بقول المسيح ربّه ومعلّمه: “الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف”.
فألقي القبض على المطران ميخائيل، ووُضع في السجن، وهناك لمينقطع عن الصلاة من أجل أبناء أبرشيته كي يثبتوا في الإيمان، ويصونهم الربّ من شرّ الاشرار.
وقد أرسل من سجنه سرًّا إلى شمّاسه جبرائيل هندو هذه الاسطر التي خطّها بيده:
“نشكر الله أنّنا لا نزال على قيد الحياة، اتّكالنا على القلبين الأقدسين. إن متنا وأن عشنا فلله نحن، كما يقول الإنجيل المقدّس. إنّ العبادة زادت في الجزيرة.
أستودعك العنايّة الربّانيية يا ابني الحبيب”.
وفي اليوم التاسع والعشرين من شهر آب عام 1915، نزعوا عنه ثيابه، وصليبه الأسقفي الذي كان يزيّن صدره، وعُذّب حتى الموت. فرُمي بالرصاص، ثمّ قُطع رأسه، وفاضت روحه الطاهرة. فاستشهد وألقي جسده في نهر دجلة.
مات شهيد الإيمان، لكي يثبّت أبناءه في إيمانهم إزاء الموت…! وكان لسان حاله يردّد قوله الشهير: “أبذل دمي عن خرافي”.
استشهد المطران ميخائيل، لكنّ ذكره يبقى حيًا في الكنيسة لما ترك لنا من دروس في محبّة المسيح والتفاني في سبيل الكنيسة، وما تحلّى به من صفاتٍ إنسانيةٍ وفضائل كهنوتيةٍ تجعل منه مثالاً في قداسة السيرة الكهنوتية.
إعداد المطران فلابيانوس يوسف ملكي
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |