عقيدة انتقال أمنا مريم العذراء إلى السماء…!
العقيدة المريميّة (عقيدة الإنتقال)، هي جزءٌ من تراث الكنيسة الشرقيّة . وتندرجُ في إطار التعبّد والليترجيّا أكثر ممّا تندرجُ في إطار العقيدة. في الكنائس المصلحة الأمر يختلف. العقيدة لا يتضمّنها الكتاب المقدّس إلاّ على نحو غير مباشر وبوجه استنتاجيّ. وهي تنتجُ من نظرة إيمانيّة شاملة للشهادات الكتابيّة في مريم ولمكانتها في تاريخ الخلاص، وليس في أقوال كتابيّة خاصّة. ( نقولها ونحن لا نخافُ وعلى كلّ مؤمن أن يقولها ولا يترّدد في الردّ ) .
إن عقيدة إنتقال العذراء مريم إلى السماء بالنفس والجسد لا يرتكزُ على حدث تاريخيّ، بل يعبّر بشكل روائيّ عن إيمان الكنيسة الآولى بأبن ابن الله الذي اتخذ جسدًا من أحشاء مريم العذراء، وصار لها ابنا حقا، وخصّها بشرف البتوليّة الدائمة، أكمَلَ نعمته عليها، فصانَ جسدها من فساد القبر ونقله إلى المجد السماويّ. وهذا، كما ذكرنا، لا يستندُ إلى نصوص ٍ كتابيّة مباشرة بل إلى تحليل ٍ لاهوتيّ، يعتبرُ إنتقال مريم العذراء بجسدها ونفسها إلى المجد السماويّ نتيجة ضروريّة لأمومتها الإلهيّة .
يقول أندراوس الكريتيّ ” من اللائق أن يـــُدبّر ابنُ الله مصير والدته بحسب مصيره الخاصّ” ؛ أمّا جرمانوس بطريرك القسطنطينيّة فيُعلن : ” كيف يُحوّلك ِ الموتُ إلى رماد ٍ وتراب ، أنت ِ التي ، بتجسّد ابنك ِ، أنقذت ِ الإنسانَ من فساد الموت ؟ ” ، بينما يوضّح يوحنا الدمشقيّ في عظته الأولى والثانية على الإنتقال ، لماذا ماتتَ مريم العذراء ؟ ولماذا انتقلتْ بعد موتها إلى السماء بجسدها ونفسها ؟ يقول: لماذا الإنتقال ؟ لقد كان من الواجب أن يُكابدَ أسرَ المهاوي الأرضيّة هذا المقرّ اللائق بالله؛ حيث تتفجّر المياه التي تُطهّر من الخطايا؛ الأرضُ غير المحروقة التي تُنتجُ الخبز السماويّ، الكرمة التي أعطت بدون أن تُروى خمر الخلود، زيتونة رحمة الآب الدائمة الإخضرار ذات الثمار العذبة …. ” . إنّ إنتقال العذراء مريم إلى السماء هو نتيجة لعمل الروح القدس فيها ، كما يؤكّد القديس بولس بقوله : ” فإذا كان الروح الذي أقامَ يسوع من بين الأموات حالا فيكم ، فالذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات يُحيي أيضا أجسادكم الفانية بروحِه الحالّ فيكم ” ( رومة 8 : 11 ) .
وأيضا لا ننسى ، وعد يسوع نفسه في معرض كلامه عن الموت والقيامة للمؤمنين باسمه، بحسب ما جاءَ على لسانه في إنجيل يوحنا الحبيب ، حين قال : ” الحقّ الحقّ أقولُ لكم إنّ مَن يسمعُ كلامي ويؤمن بمن أرسلني ، له الحياة الأبديّة ولا يصيرُ إلى دينونة، لكنه قد انتقلَ من الموت إلى الحياة ” ( يو 5 : 24 ) …
يترك لنا المجمع الفاتيكاني الثاني في ختام الدستور العقائديّ في الكنيسة تأملاً رائعا عن مريم كليّة القداسة. سأذكر فقط التعبيرات الخاصة بالسر الذي نحتفل به اليوم : التعبير الأوّل هو: “إنَّ العذراء البريئة، وقد وقاها الله من كلِّ دنسِ الخطيئةِ الأصلية، بعد أن كَمَّلت مجرى حياتها الزمنية، صَعِدت بالنفس والجسد إلى مجدِ السماء، وعظَّمها الرب كملكةَ العالمين” (عدد 59). ثم التعبير الأخر، نحو النهاية: “كما أنَّ أمَّ يسوع في تمجيدها الآن في السماء بجسدها وروحها هي صورةُ وبَدءُ الكنيسة التي ستبلغ كمالها في العصر الآتي، هكذا إنَّها تزهو على هذه الأرض علامةَ العزاءِ والرجاء الأكيد لشعبِ الله في غربته إلى أن يأتي يوم الرب” (عدد 68).
يقول البابا الفخريّ بنديكتوس السادس عشر في كتابه ” الاسختولوجيا ” ، إنّ التقيّد الحرفيّ بالكتاب المقدّس لا يفضي إلى شيء . فمن دون عمل تفسير، أي من دون تفكير عقلانيّ على المعطيات الكتابيّة، الذي على الصعيد اللغويّ وعلى صعيد ترابط الأفكار المنهجيّ يمكن أن يؤدّي إلى أبعد من المعطى الكتابيّ بحدّ ذاته ” . ويقول أيضا : ” إنّ نهاية الزمن عينها لم تعد زمنــــًا ، وليست بالتالي يومًا سوف يأتي في آخر الروزنامة ، بل هي بالضبط ” لا – زمن ” ، إنها قائمةٌ خارج كلّ زمن ، وبالتالي أيضا متّصلة بكلّ زمن . إلى هذا التصوّر يضاف بسهولة أنّ الموتَ هو أيضا ” خروجٌ ” من الزمن والدخول في اللا – زمن . هذه الأفكار ، يقول بنديكتوس ، قد اتخذت في الوسط الكاثوليكيّ كلّ قوّتها في النقاش حول (عقيدة إنتقال مريم العذراء بالجسد والنفس إلى المجد السماويّ ) . إنّ صدمة الإعلان أنّ كائنــــًا بشريّا – مريم العذراء – قد قامت منذ الآن في جسدها قد تطلّبت تفكيرًا جديدًا عامّا في العلاقة بين الموت والزمن وفي جوهر الجسدانيّة الإنسانيّة . فأذا كان من الممكن أن نرى في العقيدة المريميّة حالة ً نموذجيّة للمصير الإنسانيّ، فهذا يؤدّي في الوقت عينه إلى حلّ مسألتين : فمن جهة يتمّ تجاوزُ الشكّ الذي سبّبته العقيدة على الصعيد المسكونيّ والفكريّ ، ومن جهة ثانية يساعد هذا الأمر نفسه على تصحيح الأفكار السابقة عن الخلود والقيامة بمعنى أكثر قربًا من الأفكار الكتابيّة والمعاصرة. هذا يعني ، أن ما تقوله العقيدة عن مريم يصحّ أيضا بالنسبة إلى كلّ إنسان ؛ فبناءً على ” اللازمن ” الذي يسود من وراء الموت ، كلٌّ موت إنما هو الدخول في السماء الجديدة والأرض الجديدة ، والدخولُ في المجيء الثاني وفي القيامة.
عدي توما عاشا
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | ||||||
2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 |
9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 |
16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 |
23 | 24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 |
30 | 31 |