ماهية الحوار الإسلامي – المسيحي
مقدمة:
ليسَ هدفُ الحوارِ هو التبشيرُ ولا الاقناعُ ولا فرضُ الدين على الآخر… فلا إكراهَ في الدين … ولا إفحامَ الآخر… أو تأويلَ الآخر فتجعلُهُ يتطّرف.
وليسَ إشكاليةُ الاعترافِ بالآخر فتلغِي نفسَكَ… الحوارُ بجوهره هو تعريفٌ بنفسِكَ والتعرّفُ على الاخر…ولعل أجمَلَ حوارٍ أن تجعلَ الآخرَ يجدُكَ في ديانتِهِ…
يقولُ أحدْ العلمانيينَ الأصدقاءْ وهو الدكتور الياس حلياني: إن العملَ على اكتشافِ وتظهيرِ الينابيعِ الإنسانيةِ العميقةِ لكل الأديانِ السماويةِ، سيساهمُ بشكلٍ كبيرٍ في بلوَرَة خياراتٍ إنسانيةٍ أكثرَ عدلاً ومساواةً وحريةً للبشريةِ جمعاء .
وإنًّ كلَ محاولاتِ الانحباسِ دونَ البُعد والروحِ الإنسانية ، سيكلفُ البشريةَ الكثيرَ من العناءِ والشقاءْ.
فالمجتمعاتُ الإنسانيةُ اليومَ، تحتاجُ إلى الدينِ في بعده الإنساني والأخلاقي والروحي، وإن الانكفاءَ دونَ تجليةٍ وتظهيرِ هذه الأبعادِ من الأديانِ السماوية ، يعني المزيدَ من الحروبِ والصراعاتِ المفتوحةِ، والدمارَ الذي يهددُ الإنسانَ فردًا وجماعةً في أمنهِ وكرامتهِ وضروراتِ عيشهِ.
أريدُ أن استشهدَ في بدايةِ حديثي أيضًا بكلامٍ للإمام محمد عبده
إنَّ منشأَ المشاكلِ والصعوباتِ التي تقومُ بين الناس هو سوءُ التفاهم والخطأُ في معرفتِهم مقاصدَ بعضهمْ بعضًا…
ولو أمكنَ محوُ ما تراكمَ شيئًا فشيئًا حولَ ما يقعُ بشأنّه سوءُ التفاهم …
وتيسرُ العودةِ إلى النقطةِ الأولى التي كانت مبدأ النزاع وسبَبَ الاختلافْ، لاندهشَ الإنسانُ من السهولةِ في تذليلِ الصعاب.
سأحاول في هذا البحث اكتشافَ مسيحيتي في القرآنِ الكريمْ…
هناك الكثير من الاشخاص تكلّموا عن الحوار الإسلامي المسيحي وكان لي الحظ بالتعرّف على بعضهم ولعلّ برأي أنجح من تكلّم وأو كتب عن هذا الموضوع هو الأرشمندريت يوسف درة حدّاد، وكتبهُ كانت تُدّرسُ بالجامع الازهر.
لا بدّ من القول في البدايةِ: إنَّ الوَحيَ والتنزيل قضيةٌ ايمانيةٌ لا تمَسْ…
لكن القرآنَ نفسَهُ يدعونا الى “تدُبرِهِ”: “أفلا يتدبّرون القرآن” سورة النساء 81.
فعملاً بدعوةٍ القرآنِ سندرُسُ معنى انتسابِهِ بتواترٍ إلى الكتابِ وأهلِهِ.
لنرى: هل القرآنُ دعوةٌ نصرانيًة؟
إن صحَّ ذلك، يكونُ الأساسُ المشتركُ للحوار الصحيح بين الإسلام والمسيحية. تلك “النصرانية” القرآنية هي الجامعُ الموحّدُ بين الإسلامِ والمسيحية.
في المجمعِ الأول للرسُل صحابةُ المسيحِ وهو مجمع اورشليم سنة 49 نقرأُ:
“غير أن قومًا من الذين آمنوا، من مذهبِ الفريسيين، نَهَضُوا وقالوا: إنّهُ يجبُ أن يُختتنوا (المسيحيونَ من الامميين) ويؤمروا بإقامةِ شريعةِ موسى” (سفر أعمال الرسل 15: 5).
فالنصارى من بني إسرائيلَ يُقيمون وحدُهم التوراةَ والانجيل. “قُلْ: يا أهلَ الكتابِ لستم على شيءٍ حتى تُقَيّموا التوراةَ والانجيلَ، وما أُنزِلَ اليكُم من ربكُم”.
فالنصارى هم “طائفة من بني إسرائيلَ آمنتْ بالمسيح”.
فمن هُمُ النصارى في القرآن؟
وهمٌ شائعٌ، منذُ الدعوةِ القرآنيةِ حتى اليومْ، إنَ النَصارى هُمُ المسيحيونَ المنتشرونَ في الأرضِ، قبل ظهورِ الدعوةِ القرآنيةِ وبعدَها.
وهذا الوهمُ الشائعُ هو مصدرُ الخلاف بين الإسلامِ والمسيحيةِ: يظنون أنَ المسيحيةَ هي “النصرانية” التي يذكرها القرآنْ.
وقد زادَ هذا الوهمُ الشائعُ ترسيخًا ترجمةُ المستشرقينَ كلمةُ “نصارى” في القرآن، بلفظة “مسيحيين” Chrétiens. فزادَ البلبالُ.
ونحن إذا تدبرنا القرآن، كما يدعونا إلى ذلك وجدنا ان “النصارى” في القرآن هم غير المسيحيين. وهذا ما نتحققه أيضاً في مصادر الوحي الإنجيلي، “العهد الجديد”؛ وما تثبته المصادر التاريخية، في عهد الفترة، ما بين الانجيل والقرآن.
فالظاهرة الأولى الكبرى أن القرآن، الذي يميّز بين العقيدة النصرانية والعقيدة المسيحية، لا يعرّف أتباع المسيح من بني إسرائيل والأممين إلاّ باسم “نصارى”…! ولا يذكر اسم “مسيحيين” على الاطلاق، مع انه الاسم الشائع في الدنيا كلّها على أيام الدعوة القرآنية والفتوحات الإسلامية؛ والاسم الشائع في أطراف الجزيرة العربية نفسها من اليمن إلى الشمال.
والظاهرة الثانية الكبرى أنّ القرآن يكفّر اليهودية تكفير “النصرانية” لها، و”يكفّر” المسيحية أيضاً تكفير “النصارى” لها: “قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ، ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرًا، وضلوا عن سواء السبيل- لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل، على لسان داود، وعيسى ابن مريم، ذلك بما عَصَوا وكانوا يعتدون”…! (المائدة 76- 77).
بالنسبة لنا طالما بقيت الدعوة محصورة في فلسطين كانوا يسمون “نصارى” نسبة الى يسوع الناصري؛ فلما انتشرت الدعوة المسيحية في سوريا أخذ الناس يسمونهم “المسيحيين”.
في الدعوة ليسوع المسيح في اورشليم قال بطرس، زعيم الرسل، في خطابه الأول لبني إسرائيل: ” يا بني إسرائيل اسمعوا هذه الكلمات: إن يسوع الناصري، الرجل الذي أيده الله بين ظهرانيكم بالخوارق والآيات والمعجزات التي اجراها على يديه في وسطكم كما تعلمون؛ ذاك الذي أسلم بحسب قضاء الله، وعلمه السابق، فقتلتموه انتم صلبًا بأيدي الظالمين، قد أقامه الله، ساحقًا قيود الموت، اذ لم يكن في طاقة الموت ان يضبطه… فليعلم يقينًا جميع آل إسرائيل ان الله قد جعل يسوع، هذا الذي صلبتموه أنتم، ربًا ومسيحًا” (سفر أعمال الرسل 1: 22- 36).
فصحابة المسيح ورسله، في بيئتهم اليهودية، يجمعون في ألقاب يسوع اللقب النبوي الذي به يؤمنون، المسيح؛ واللقب القومي الذي به يُعرفون، الناصري. فلا بدّ اذن من أن يسمي اليهود الجاحدين مسيحية يسوع أتباعه: ناصريين أو نصارى (بحسب صيغة الجمع الآرامية).
القرآن والكتاب المقدّس[1]:
هناكَ أمورٌ مشتركةٌ بينَ القرآن الكريم والكتاب المقدّس وإن كان هناك اختلافٌ بسيطٌ لكنّها كانت ومازالت مادةً مهمّةً للحوارِ بين الأديان.
فترةُ الانتقالِ بينَ عهدَين (من القمرِ إلى مريم)
سورةُ القمر (54) وفيها تَردُ قصصُ الاوَلين، والسورةُ وحدةٌ قائمةٌ بنفِسها تَربُطُ أقسامَها خاتمةٌ مردّدةٌ، في وحدةِ الموضوع ووحدةِ النَظم ووحدةِ الروي. ففي الآيتَينْ 43 و52 يعطينا القرآنُ مصادرَ بعض ما وردَ فيه: “كلَّ شيءٍ فعلوه: في الزَبور أي الكتبِ المقدّسةِ عندَ أهلِ الكتابْ وفي “اللازمة” المُردّدةً: “ولقد يسّرنا القرآنَ للذكر، فهل مِن مُذكِّر” يُظهر ان غايةَ القرآنِ هي تذكيرُ العربِ بما في زُبوُر الكتاب.
نجدُ في مطلَعِ السورةِ “اقتربتِ الساعةُ وانشَقَ القَمَرْ” في تفسير الجلالين: اقتربتِ الساعةِ أي: قربت القيامة. وانشقَ القمر: انفَلَقَ فلقَتينْ.
وفاتَ الجلالين ما في هذا التفسير من تَنَاقُضْ: الساعةُ هي القيامةُ، وانشقاقُ القمر من علاماتِ حُضورِ يومِ الدينْ، والنصُ الكريمُ يُعطي انشقاقَ القمرِ علامةٌ للقيامة لا معجزة. أمَّا قولُهُ في الآيةِ الثانية: “وان يرَوا آية، يَعرضُوا ويقولوا: سحرٌ مُستمْر) فيعني آيةَ خطابيّة لا معجزَة عملية بدليل جوابِهِم: “سحرٌ مستمرٌ” حملاً على قولهم: “سحرٌ يؤثرُ، قولَ البشر”. وقد ورد الاسمُ “الساعة” والعلامةُ “انشقاقُ القمرِ” وظلامُهُ، في انجيل متى (24: 3 و29و36).
لنقرأ في بشارة متى الرسول:” وبينما هو جالسٌ في جبل الزيتون، دنا منه تلاميذُهُ فانفردوا به وسأَلوه:” قلْ لنا متى تكون هذه الأمور وما علامةُ مجيئكَ ونهايةِ العالم؟ ففي الآية 29 من نفس الفَصل “وعلى أثرِ الشدّة في تلك الايّام، تُظلم الشّمسُ، والقمر لا يُرسل ضوءَهُ، وتتساقطْ النّجومُ من السماء…
مريم في القرآن
قصة سورة مريم (19) في القرآن
- ذكرُ ميلاد يحيى (1 – 14) اذكُر رحمتَ ربِّك عبدَهُ زكريا…فخرج على قومِه من المِحراب فأوحَى اليهِمْ أن سبحوا بُكرة وعشيّا… يا يحيى خذ الكتب بقوة وآتيناه الحكم صبيًا، وحنانًا من لدنّا وزكاة وكان تقيًا…وسلام عليه يومَ وُلد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيًا. وهو السلامُ ذاتُه على عيسى في مولِدِه وموتِه وبعثِهِ حيًا، وهذه شهادةٌ على ايمانِ القرآن الأوّل بحقيقةِ موتِ المسيحِ وبعثِهِ. والفارقُ انه “سلامٌ” بحق يحيى، بينما هو “السلام” بحق عيسى. قال البيضاوي “سلام عليه يومَ وُلدَ” من لِئَلا ينالُهُ الشرُ بما نالَ به بني آدم؛ ويومَ يموتُ: من عذابِ القبرْ؛ ويومَ يُبعثُ حيًا: من عذاب النار وهول القيامة.
- ذكرُ ميلادِ المسيح من مريم، وهي بتول، (15- 40) وفيهِ نصان:
النصُ الأصلي (14- 33) على نَظمِ السورةِ ورَوْيَها:
في قصةِ مولد المسيح، بينَ الانجيل والقرآن ائتلاف واختلاف. الائتلافُ الأكبرُ في الشهادةِ الواحدةْ فيها ببتوليةِ مريمَ في الحبلِ والوِلادَة، ثم في الاوصافِ المميزة لشخصيةِ المسيح في النَص الأصلي ويَظهرَ الاختلافُ، على مكانِ البشارة “مكانًا شرقيًا، وراءَ حجابِ” وهي في الانجيل في الناصرة؛ وعلى مكانِ الولادة: مكانًا قصيًا عندَ جذع النخلة والانجيل في بيتَ لحم (لوقا 2: 4) في مذود (2: 7 مو12). وذكرُ الأكلِ بمعجزةٍ من النَخلَةِ اليابِسَة، والشرب بمعجزةٍ من جدولٍ سريٍ، وصومُ مريم عن الكلام، ونطقُ يسوعَ من المهد: كلُّها معجزاتٌ لم يَذكُرْها الانجيلُ؛ ولكن لها امثالُها في الاناجيل المنحولة: فإنجيلُ متى المنحول يَذكُرُ الأكلَ من النخلةِ اليابسَةِ، والنهرِ الجافِ؛ وانجيلُ الطفولةِ المنحول ينقل كلامَ يسوع لأمِّه ساعة مولدِهِ “أنا يسوعُ الذي ولدتُهُ/ ابنُ اللِه، الكلمة”. فهذا الَقصَصْ النصراني حَمَلَهُ الرهبانُ إلى الشعبِ في تطوافِهِم على ديارِ العربْ، حتى وصلَ الحجازَ ونَزَلَ به القرآنُ. وأمُ المسيح هي الأنثى الوَحيدة في القرآن التي ذَكَرَها باسمِها والتي كلّمَها الملائكةُ واستنبأها اللهُ[2].
النص الإضافي (35- 40):
هذا النصُ مقحَم من المدينة على السياق يدلُّ عليه اختلافُ النُظُمْ والرَوْي.
فيه حملةٌ على النصارى لجَعلِهم المسيحَ ابنَ الله وحملةٌ على اليهود لكِفرِهِم بالمسيح، ولم يقُم في مكة جدالٌ بين محمدٍ والكتابيين (الزمخشري) ولم يكن ليَهتًمْ في مكة بأحزاب اليهودِ والنصارى وهو لا يميّزُ في مكة بين الكتابِ والانجيل (سورة مريم 30).
في النص الأصلي والإضافي، تعارضٌ بين نظريتين: في العهد الاوّل من القرآنِ المكي يقرُبُ من النظريةِ باليعقوبيةِ التي كانتُ منتشرةٌ في الحبشة واليمنَ الجنوبي، وأطراف الشام ومكة بأنّ في كلمة الله أو قول الحق وعيسى ابن مريم وحدة شخصية وطبيعية. وفي النص الإضافي كما في سائر القرآن المدني يقرُبُ من النظريةِ النسطوريةِ التي كانت سائدة في الحيرة ونجران واليمن الشرقي والطائف والمدينة بأنَّ كلمة اللهِ والمسيحَ عيسى ابنُ مريم شخصان متميزان جَمَعهُما اتحادٌ طارئٌ لا وحدة شخصيَة، لذلك لا يَصُحُ ان يُقالَ عن عيسى ابن مريم أنه إلهٌ او ابنُ الله، ولا عن مَريَمَ العذراء انها امُّ الله. أمّا المسيحيةُ الحقةُ فلم تَصلْ الى الحجاز ولم تظهَرْ في القرآن وفي حملاتِهِ.
تأسيسُ الامةَ الوَسَطْ – دولةٌ دينية:
“وكذلك جعلناكم أمةَ وسطٍ لتكونوا شهداءَ على الناس” (بقرة 143)
الظاهرةُ الأولى والعُظمى التي تَستطلُعُنا مُنذُ مطلَعِ العهدِ المدنيِ الأولِ، في سورة البقرة، والسُوَر الإحدى عشرة الأخرى التي نَزلّتْ فيه، هي الفوارقُ الباهرةُ ما بينَ القرآن المكي والمدني، والدعوةُ في مكة والمدينة، وشخصيةُ الرسول قبل الهجرةِ وبعدَها. فكأنّنا أمام قُرآنَين ورسولَين. قال عمر فرّوخ في كتابه العرب والإسلام صدر في بيروت عام 1958، ص 42. “كان للهجرة قيمةٌ خاصة في تاريخ الإسلام: لقد كان حدًا فاصلاً بينَ عهدٍ كان فيه الإسلام دعوةً دينية، يحميها نفرٌ قليلون مُستَضعفون، وبين عهدٍ أصبحَ الإسلامُ فيه دولةً قويةً مرهوبة”. وقال حسين هيكل في كتابِهِ حياة محمد ص. 190. :”هنا يبدأُ الدورُ السياسيُ … وهذا الدورُ من حياةِ الرسولِ لم يَسبْقهُ اليه نبيٌ او رسولٌ…يصيرَ فيه الرسولُ والسياسيُ والمجاهِدُ والفاتحَ”.
فالإسلامُ في القرآن المكّي هو التوحيدُ الكتابيُ الواحدُ من موسى الى عيسى الى محمد؛ والإسلامُ في القرآن المدني هو الحنيفيَة الابراهيمية الكتابية، في القومية العربية:” ما كان إبراهيمُ يهوديًا ولا نَصرانيًا، ولكن حنيفًا مسلمًا؛ وما كان من المُشركين” (آل عمران). وتصير هذه الحنيفية الكتابية الابراهيمية العربية أفضلَ من التوحيدِ المُنزَل: “ومن أحسنَ دينًا ممّن أسلم وجهه للهِ، وهو محسنٌ، واتبعَ ملةَ إبراهيم حنيفًا؛ واتخذَ اللهُ إبراهيمَ خليلاً” (نساء 124).
كانتِ الدعوةُ القرآنيةُ في مكة الى “امةٍ واحدةٍ” في التوراةِ والانجيلِ والقرآنِ (مؤمنون 51، انبياء 91)؛ فصارتْ في المدينةِ الى “امةٍ وسطٍ” بين اهلَ التوراةِ واهلَ الانجيل (بقرة 142).
كانت الدعوة في مكة إلى الايمانِ بالله وباليوم الآخر، بعيدًا عن ضوضاءِ الجسدِ والسياسةِ والدُنيا، فصارت في المدينة دولةٌ دينيةٌ “تبنى لليومِ الحاضرِ، في معاركَ الجسدِ والسياسةِ والدنيا.
في الجلاء البابلي عند اليهود، تطور التوحيدُ التورَاتي من روحِ العقيدةِ الى روحِ الشريعةْ، من حياةِ الايمانِ، الى حياة “الشَرْع”.
وكذلك، هجرةُ الرسولِ الى المدينة، تطورُ التوحيدُ القرآنيَ من عقيدةٍ الى شريعةٍ، ومن دينٍ إلى دولةٍ، ومن دعوةٍ عامةٍ الى ملّةٍ مستقلّة. وذلك بتأثيرِ البيئةِ اليهوديةِ في المدينة، وضروراتِ الدولةِ الإسلاميةِ الناشئة.
كانت حياةُ الرسولِ في مكة حياةً صوفيةً على مثال رُهبانِ عيسى، فصارتْ حياتُه في المدينة حياةً “شرعيةً” على مثالِ أئمةِ اليهودِ في المدينة. كانت حياةَ ايمانٍ وصلاةٍ وزُهدٍ؛ فصارت حياةَ مراسيمَ، وغزواتٍ، وتمتّعْ بالطيّباتْ: ” يا أيها الناسُ، كلوا مما في الأرض حلالاً طيبًا” (بقرة 168 و172)، “اليوم أُحلّ لكم الطيباتُ” (مائدة 6).
صبغَ القرآنُ المدنيُ الحياةَ الإسلاميةَ بالصبغةِ “الشرعيةِ” القانونيةِ، فلا تقومُ إلاّ بالمراسيمِ المعهودةِ. وهذا ما آلتْ اليهِ العقليةُ اليهوديةُ قبلَ المسيح، وعاشت فيه، في جميع مَهاجِرهِم، وفي الحجاز والمدينةِ، وهذه العقلية الشرعية التي توطدت في العهدِ المدَنيَ، وصبغتِ الإسلامَ نهائيًا بصبغتِها المميّزة، جَعَلتِ الإسلامَ يتنكرُ في تاريخِهِ الى الحركاتِ الصوفيةِ التي تأثرت بالمسيحية.
اذن يتطورُ القرآنُ، ما بين مكةَ والمدينة، من حياةِ الايمانِ الى حياةِ الشريعةْ. وهكذا كانت الدعوةُ القرآنيةُ في مكة دينًا فصارت في المدينة دولةً دينيةً.
خاتمة
واختم حديثي مع حكمة الدلاي لاما ..! القائد الروحي الأعلى الحالي لبوذية التبت
في جوابه عن سؤال، ما أفضلُ الأديان من وجهة نظرك” … ؟!!
أجاب:
” العقيدةُ الأفضلُ هى تلك التي تجعلك شخصًا أفضل. وتجعلك أقرب إلى صورة الله على الأرض. هي التي تجعلك أكثرَ رحمةً، أكثرَ إدراكًا، أكثر حساسيةً، أقلّ تحيّزًا، أقلّ عنصريةً، أكثرَ حبًّا، أنظفَ لسانًا، أكثر إنسانيةً، أكثر مسؤوليةً، وذا أخلاق عالية. الدينُ الذي يجعلك كل ما سبق، هو الدينُ الأفضل.”
“لستُ مهتمًّا يا صديقي بعقيدتك أو دينك أو مذهبك. أو إذا ما كنتَ متديّنًا أم لا. الذي يعنيني حقًّا هو سلوكك أمام نفسك، ثم أمام نظرائك، ثمّ أمام أسرتك، ثمّ أمام مجتمعك، ثم أمام العالم. لأن جماع كل ما سبق سيشكّل كيانك وصورتك أمام الله. تذكّر أن الكونَ هو صدى أفعالنا وصدى أفكارنا. وأن قانونَ الفعل وردّ الفعل لا يخصُّ عالم الفيزياء وحسب، بل هو أيضًا قانونٌ يحكم علاقاتنا الإنسانية. إذا ما امتثلتُ للخير سأحصدُ الخيرَ، وإذا ما امتثلتُ للشرّ، فلن أحصد إلا الشرَّ. علّمنا أجدادُنا الحقيقة الصافية التي تقول: –
*سوف تجني دائمًا ما تتمناه للآخرين. فالسعادةُ ليست رهن القدَر والقسمة والنصيب، بل هى اختيارٌ وقرار”. ثم ختم كلامه قائلا: –
” *انتبه جيدًّا لأفكارك، لأنها سوف تتحول إلى كلمات. وانتبه إلى كلماتك، لأنها سوف تتحول إلى أفعال. وانتبه إلى أفعالك، لأنها سوف تتحول إلى عادات. وانتبه إلى عاداتك، لأنها سوف تُكوّن شخصيتك، وانتبه جيدًّا إلى شخصيتك، لأنها سوف تصنع قَدَرك، وقَدرُك سوف يصنع حياتك كلّها* ”
يبدو ان ما يريد قوله الدلاي لاما بكل بساطة هو أن الدين وسيلة، وليس غاية. الغايةُ العليا هى «الصلاح». والدينُ هو أحد السبل للوصول إلى الصلاح. .
فإن قضى الإنسانُ عمرَه كلَّه في مسجد أو كنيسة أو هيكل أو معبد، يُصلّى ويصوم ويتعبّد، ولم يصنع منه كلُّ ذلك إنسانًا صالحًا رحيمًا متحضرًا عفَّ اللسان، فما جدوى ركوعه وسجوده وجوعه وعطشه، واللهُ تعالى غنيٌّ عن صلاتنا وذكرنا وقرابيننا … ؟!!
إنما خلقنا اللهُ لكي نصنع نموذجًا متحضرًا للكائن المسؤول الذي يختار الخير وهو قادرٌ على الشر، ويختار الرحمة وهو قادرٌ على القسوة، ويختارُ العدل بدلاً من الظلم. لهذا كلّفنا الله وجعلنا ورثة الأرض القادرين على الاختيار والقرار.
ذاك هو الدرسُ الذى نحتاجُ أن نتعلّمه:-
العقيدةُ شأنٌ خاصٌّ بين الإنسان وربّه، أما الشأنُ العام، فهو التعامل الطيّب بين الناس. الإنسانُ النظيف القلب، العادلُ، المتحضّر، وغير المتحيّز هو السفيرُ الأجملُ لعقيدته.
أيامكم محبة وعطاء وتسامح???
كل عام وأنتم بخير وشكرًا
الأستاذ الحداد
———————————–
[1] الأستاذ الحداد، القرآن والكتاب، القسم الثاني، اطوار الدعوة القرآنية.
[2] الأستاذ الحداد، القرآن والكتاب، 462.
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |