نبذة عن حياة المثلث الرحمة مار فلابيانوس زكريا ملكي
رئيس أساقفة آمد شرفاً والنائب البطريركي في لبنان سابقاً
في العشرين من كانون الأول الساعة العاشرة صباحاً غداة أحد الكاهن زكريا انطفأ سراج وهاج في الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية بوفاة المثلث الرحمة مار فلابيانوس زكريا ملكي رئيس أساقفة آمد شرفاً والنائب البطريركي في لبنان سابقاً الذي أبلى البلاء الحسن في معركة الإيمان والتضحية وكرس حياته لخدمة الله وتنشئة الكهنة وسياسة شعب الله. فكان لغيابه رنة حزن في قلوب أبنائه وعارفي قدره ومبراته وفي كافة الأبرشيات السريانية ولدى الطوائف الشقيقة التي كانت تربطه وإياها أواصر الصداقة والتعاون.
بهذه المناسبة أحببنا أن نعطي لمحة سريعة عن حياة هذا الحبر الجليل الذي عايشناه منذ حداثة سننا وهو عم لنا تركت شخصيته المحبوبة بليغ الأثر في قلوب الذين عرفوه.
نشأته:
أبصر زكريا النور في عام 1889 في قلعة مري, ضيعة متواضعة, بجوار ماردين أنجبت العديد من الكهنة والأساقفة والبطاركة لكلتا الطائفتين السريانيتين وترعرع فيها في كنف والدين صالحين بطرس وحيوبة هابوري عُرفا بالتقوى ومخافة الله وكان جده كاهناً وهو القس إيليا عُرف بالقديس وشقيق المطران ميخائيل أسقفاً على كرسي جزيرة ابن عمر قضى شهيد الإيمان إبان الحرب العالمية الأولى 29 آب عام 1915 على يد الأتراك أعني به المطران فلابيانوس ميخائيل ملكي.
في هذا الجو المشبع بالإيمان ومحبة الكنيسة نمت في قلب زكريا الصغير الدعوة الكهنوتية فلبى نداء المعلم الإلهي وهو في العاشرة من عُمره وقرر في نفسه أن يهب حياته لله تعالى. فبرح قريته إلى ماردين سنة 1911 وانضم مع كروان منظم قطع به كامل صحراء سوريا مروراً بالدرباسية ورأس العين وتل أبيض ولم تكن آهلة بعد بل محطات للقوافل إلى أن بلغوا مدينة حلب بعد اثني عشر يوماً من الترحال المضني والمحفوف بالمخاطر.
في حلب ركب القطار حتى دمشق ومنها إلى حيفا ثم القدس حيث انضم إلى عداد الاكليريكيين الصغار تحت إدارة الرهبان البندكتيين الفرنسيين, وفي عهدتهم واظب على الدراسة واقتباس العلوم والفضائل الكهنوتية مدة ثلاثة سنوات حتى اندلاع الحرب الكونية الأولى عام 1914 إذ اضطر الرهبان إلى خدمة العلم في أوطانهم وانقلب الطلاب عائدين إلى ذويهم ماعدا الشماس زكريا الذي مكث يحرس الدير مع أحد الأخوة الرهبان.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها وعادت الحياة إلى الاكليريكية واصل الشماس زكريا دروس الفلسفة واللاهوت وسيم كاهناً في 3 أيار في كنيسة نوتردام دفرانس بوضع يدي البطريرك افرام رحماني وكانت حفلة شيقة مهيبة انطبعت ذكراها في قلب الكاهن الجديد لروعة نظامها وجمال أنغامها دامت 3 ساعات.
ابتدأ الكاهن الجديد بإلقاء الدروس في الاكليريكية ومساعدة الرعية في القدس مدة ثمان سنوات. وفي صيف 1928 استدعاه البطريرك افرام رحماني ليرافقه إلى روما فزار قداسة البابا بيوس الحادي عشر في 6 أيلول ثم سافر مع غبطته إلى باريس وغيرها من المدن في فرنسا ومنها إلى دير مونسراتا البندكتي الذائع الصيت قرب برشلونة في اسبانيا حيث درّب فريقاً من رهبانه على خدمة القداس السرياني الحبري وأخذت لهم صورة تذكارية مع غبطة البطريرك ذكّرهم بها عندما زار الدير للمرة الثانية في 20 آب 1989ووجدت الصورة في أرشيف الدير. بعد هذه الجولة عاد إلى القدس في أوائل تشرين مستأنفاً واجباته التربوية.
رئاسته على دير الشرفة:
في 5 تشرين الأول عام 1933 إذ أراد السيّد البطريرك جبرائيل الأول تبوني تعيين خلف للرئيس السابق على دير الشرفة المطران جرجس ستيته توجهت إليه ناظراه فاستدعاه من القدس وولاه الرئاسة على الدير والاكليريكية الكبرى التي كانت قد انتقلت من القدس وانضمت إلى الشرفة عام 1930 تحت رعاية الآباء البندكتيين وكان له من العمر آنذاك 35 سنة فقط. قبل المهمة بالرغم من شعوره بثقل المسؤولية وقلة خبرته واضعاً اتكاله على نعمة الله ومساعدة العذراء مريم سيدة النجاة شفيعة الدير عاملاً بمرضاة رؤسائه بروح الطاعة.
بذل كل ما في وسعه للقيام بواجبه المقدس في حقل رسالته الجديد فأحاط الشمامسة بعنايته الأبوية مسدياً إليهم الإرشاد والنصح محرضاً إياهم على الفضيلة واكتناز العلوم. بعث فيهم الغيرة على خلاص النفوس والتفاني دون حساب في كرم الرب وبمثل هذا الاندفاع انصرف إلى تحسين أوضاع الدير المادية فوفى الديون المترتبة على الدير منذ الحرب العالمية الأولى وسددها كلها عام 1947 وجمّل مداخل الدير بزرعه ما ينيف على 400 من الأرز والصنوبر تضفي اليوم عليه وشاحاً من الهيبة والوقار وفي 24 شباط عام 1935 رقّاه البطريرك الكردينال تبوني إلى رتبة خوراسقف. وواصل هذا النشاط دون كلل فنقب العقارات المهملة ونصب جنينة حمضيات في نواعير جونية عام 1937 وغيرها من بساتين التفاح في بقعاتا ورعشين وميروبا ومزرعة كفردبيان بعد أن توقفت ترعية القز ونضبت مداخيل الدير.
وفي عهده توسع الدير وترمم فبمسعاه وهمّته شيّد عام 1947 جناح المقر البطريركي الصيفي كما أنه زيّن المصلى الصغير حيث تكرم إيقونة سيدة النجاة العجائبية ودمجها باللوحات الزيتية لمار أفرام واسحق ويعقوب ملافنة الكنيسة السريانية بريشة الفنان ارتورو اورتيس الايطالي. وكان ذلك وفاءً لنذر قطعه على نفسه وعرفاناً منه بالجميل لحصوله على نعمة الشفاء من مرض عضال أصابه عام 1943 قطع الأطباء الأمل منه بالشفاء وطبع على نفقته أيضاً صورة سيدة النجاة التذكارية وزع منها 15000 صورة ملوّنة على من يقصدون مزارها المقدس.
وبمناسبة مرور 160 عاماً على تأسيس دير الشرفة طلب إلى صديقه المؤرخ والكاتب الخصب الخوراسقف اسحق أرملة أن يحرر تاريخ دير الشرفة فقام بهذا العمل الضخم وأنجز الكتاب بالطبع عام 1946 في 626 صفحة.
استقدام الرهبان الانتقاليين:
لما اضطر الآباء البندكتيون إلى الانسحاب من إدارة الاكليريكية الكبرى في الشرفة قام الرئيس زكريا ملكي برحلة عمل إلى روما وفرنسا وهولندا لإيجاد رهبانية تقوم بإدارة الاكليريكية وتأمين الدروس الفلسفية واللاهوتية. فوفقه الرب بقبول الآباء الأغوسطينيين الانتقاليين في هولندا هذه المهمة إلى لبنان عام 1950 وداوموا على عملهم الرسولي هذا حتى عام 1958.
أما الاكليريكية الصغرى التي بقيت في القدس فقد أغلقت عام 1953 بارتحال الآباء البندكتيين نهائياً عن المشرق فرحب رئيس الشرفة بالطلاب الصغار وأخذ يسعى بإيجاد مكانٍ لهم وتوفير الرعاية والتدريس لهم.
الاكليريكية الجديدة:
ولما ضاقت الشرفة القديمة دون استيعاب عدد الطلاب عدد الطلاب المتزايد صمم المشروع انضم بتشييد اكليريكية حديثة تضم بجناحيها التلاميذ كبارً وصغاراً حول كنيسة مركزية رحبة. فوضع حجر الأساس البطريرك الكردينال تبوني عام 1953 وارتفع البناء في مدة عشر سنوات شامخاً مهيباً بهمة رئيسه المفضال زكريا ملكي ودشنت الكنيسة في 15 آب 1963 بحفلة سيامته الأسقفية. واتخذ الأسقف الجديد اسم فلابيانوس تيمناً بشهيد الإيمان نسيبه المطران ميخائيل ملكي.
الأسقف:
على اثر سيامته الأسقفية غادر المطران زكريا الدير الذي قضى فيه 30 عاماً من حياته تخرج على عهده نيف وسبعون كاهناً و16 أسقفاً توزعوا على كافة الأبرشيات السريانية يعملون فيها حتى اليوم. استقر في مركزه في خندق الغميق من بيروت في حمى كنيسة مارجرجس السريانية حيث بقي إلى اندلاع الفتن في لبنان عام 1975. نهض بمهامه الرعوية بالغيرة الرسولية التي عرف بها فكان الراعي الصالح الذي يسهر على قطيعه ليقيه الأخطار ويفديه بالإرشاد والتوجيه وكلام الله. يتفقده زائراً كافة العيال مشجعاً ومسدياً النصح معزّياً ومساعداً حيث يشعر بالبؤس مشيعاً الفرح في البيوت والعزاء والأمل في القلوب.
كان رسولاً يستمد من صلاته الزخم والنشاط في العمل وإذ لاحظ نزوح العيال إلى ضاحية المدينة شيّد لهم في منطقة الفنار عام 1964 كنيسة ومدرسة على اسم مار بهنام الشهيد وأسّس رعيّة في سدّ البوشرية على اسم العائلة المقدسة وعيّن لها كاهناً يقوم بسد حاجات أبناء الرعية الروحية والمادية ومدرسة مار أفرام بالمصيطبة وسائر مدارس الطائفة واستدعى الراهبات الدومينيكيات إلى مدرسة مار بهنام والراهبات الكاترينات إلى مدرسة مار أفرام في المصيطبة.
أيامه الأخيرة:
وعند اندلاع الحرب المدمّرة في لبنان عانى مع أبنائه آلام التهجير وحزّ في نفسه الخراب والنهب اللذان حلاّ في مطرانيته وكاتدرائيتها فعبثت الأيادي الأثيمة سلباً في الأثاث الفاخر القديم والأمتعة والحلل الكهنوتية والأواني البيعية المقدسة والترياق واللوحات الزيتية النادرة الوجود التي كانت تزيّن جدران الكنيسة والكتب النادرة ولم يبق من ذلك المركز سوى الجدران. من هناك من الغزاة الذين عرفهم التاريخ في شرقنا المسيحي والذين قال عنهم مؤرخهم ابن خلدون: ” حيث حلّ العرب حلّ الخراب “.
حمل هذه الهموم في قلبه ومصاب أبنائه الذين تشتّتوا ونزح قسم لا يستهان به إلى بلاد الاغتراب لتأمين مستقبل أفضل لهم ولأبنائهم وكان بدوره الراعي المتنقل بين بيروت وجونية والجبل. ولما شعر بوهن قواه ووطأة الشيخوخة قدّم استقالته التي قبلها غبطة أبينا البطريرك مار أغناطيوس انطون الثاني حايك عام 1980 ف فاعتزل الأعمال الإدارية واعتكف في حريصا على الصلاة والتأمل مستعداً لملاقاة ربه وكان يستقبل ببشاشة زائريه العديدين ويستهويهم بحديثه الممتع وفي هذه الغضون أسس جمعية خيرية أطلقت عليها اسم مار زكريا البارّ أوقف لها جميع ممتلكاته لتحقيق غاياته المبرورة. وقد لبّى دعوة ربه رضي النفس قرير العين صباح الاثنين 5 ك وهو على أتم استعداد أمام الرب.
نفعنا الله ببركة صلاته وشفاعته بالسماء وعوض على كنيسته بخدام حكماء ونشيطين على أمثاله.
المطران يوسف ملكي
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |