العادة في حياتنا
العادة في حياتنا
ما هي العادة ؟
إنَّ العادة هي تكرار عمل معين اكتسبناه نتيجة تفاعلنا مع المجتمع والآخرين بحيث يتم اكتسابها “عن طريق تكرار حركات بسيطة بطريقة آلية الى حد ربطها بعضها ببعض” .
يكون العمل الذي نقوم به صعباً في البداية، ولكنه وبفعل العادة يصبح سهلاً ، ويكون التركيز فيه أقل من ذي قبل. “إنَّ في تعلم الكتابة مثلاً عذاباً للطفل. فإصبعه تنكمش وكذلك معصمه وساعده وكتفه ، وعلى الرغم من هذا الجهد والالم، فهو لن يخط سوى بعض الاحرف ببطئ . اما عندما يكون قد اكتسب عادة الكتابة، فإنه يجيدُها بسرعة وسهولة مستخدماً بذلك بعض حركات اصابعه ليس إلا “[1] .
نستطيع أن نُقسم العادة إلى قسمين : العادة الإيجابية والعادة السلبية .
- العادة الايجابية : تتمثل بالكثير من اعمالنا اليومية مثلاً، سائق السيارة اعتاد على قيادة سيارته، وصار يستطيع ان يقودها بدون اي جهد فكري او عضلي . لذلك نشاهد الكثير من سائقي السيارات يقودون سياراتهم وهم يضحكون او يتكلمون مع شخص آخر اثناء القيادة . وذلك لأنهم اعتادوا على قيادة سياراتهم بكل سهولة . ُقال أن أيَّ شخص اعتاد على فعل شيء مُعين إذا فكر في ما يقوم به قد يُخطئ . ولأجل هذا سنتابع المثال التالي: فالمؤلف عندما يكتب نجد يده تتحرك وتكتب من دون تفكير في فعل الكتابة فهو لا يفكر كيف تتحرك يده بل يفكر بما سوف يكتبه من افكار . فلو فكر بحركة يده سوف يتلكئ بكتابة الموضوع الذي هو بصدد كتابته . كذلك بالنسبة الى القارئ فهو لا يفكر كيف يقرأ بل يُفكر بما يقرأ. لأن فعل القراءة صار عنده عادياً ولا يحتاج الى اي تفكير . اذاً العادة ايجابية.
- العادة السلبية : تتحول العادة الى سلبية عندما تسيطر على جميع نواحي حياتنا اليومية، فهي تقضي على المبادرات الفردية وتسبب الركود ويصبح الانسان بلا ابداع يعيش الرتابة. إنّ إنسان هذه العادة يصبح وكأنه مُسير فكل شيء لديه لا يتغير، فهو لا يُبدع ولا يُغامر، يتحول كالآلة التي تعمل عملاً محدداً ليس إلا ، وفي هذا الصدد يقول أحد الشعراء الفرنسيين “إنّ جميعَ الذين تستولي عليهم العادة يكونون بوجوههم بشر وبحركاتهم آلات”. إنّ العادةَ السلبية تقضي على الإبداع، الإنسان فيها يسير بلا هوادة نحو ما يجب أن يفعل وليس نحو ما يريد أن يفعل إنّ العادةَ السلبية تُسيطر على الإنسان وتجعله فريسة لها إذ أنّه ينقاد لها ولا يشعر بما يفعله، هكذا اذًا تُسيطر العادة وتجعلنا نعمل ولكن بلا وعي. يتكلم الفيلسوف هنري برغسون عن الضحك و يقول: إنّ الإنسان يصير مثيراً للضحك عندما يشبه الآلة في حركاته. “تكون الاوضاع والاشارات وحركات الجسم مضحكة بقدر ما يذكرنا هذا الجسم بالميكانيكية المجردة البسيطة “[2]
إذا اخذنا كرسي المكتب كمثال، نجد أنَّ صاحب المكتب يأتي كل يوم ويجلس على هذا الكرسي من دون أن ينتبه إذا كان هذا الكرسي مكسوراً أم لا ، ولكن في أحد الأيام يكون الكرسي قد انكسر وصاحبه لا يدري، فيأتي ويجلس من دون أن ينتبه فيقع فيصير مثيراً للضحك، هكذا اذاً ينصح برغسون الانسان بالمرونة والانتباه في حركاته .
العادة السلبية تقتل النقد
انطلاقاً من مقولة الفيلسوف بول ريكور ” إنَّ أفكاري هي عادات لعقلي “، نجد أنه من البديهي أن نلتفت إلى نوع من العادة نستطيع أن نسميها “العادة الفكرية” . فنحن اعتمدنا على نمط تفكير مُعين وأيّ شخص يأتي ويُعارضنا في تفكيرنا نبدأ بمقاومته ومعارضته دون أن نتفحَص مدى أحقية أفكارنا ومدى صحتها. فتصبح هنا أفكارنا عبارة عن حقائق تعوَدنا عليها دون أن نجرّب ما إذا كانت صحيحة أم خاطئة . فغاليلي مثلاً، قال إن الأرض ليست مركز الكون وإنها تدور حول الشمس وليس العكس كما كان يُعتقد في زمانه، قام عليه أهل العلم آنذاك ووقفوا بوجهه معارضين وساخرين .
إنّ العادةَ الفكريةَ هذه من شأنها أن تُسقطنا في الأوهام التي تكلم عنها الفيلسوف الانكليزي فرنسيس بيكون، حيث يصف الوهم بأنّه عبارة عن “نزعات العقل الطبيعية التي تصوّر لنا الاشياء على صورة سابقة لا برهان عليها من التجربة والمشاهدة “[3] .
يُميز الدكتور علي الوردي بين المُتعلِّم والمُثقَّف حيث يقول : “فالمتعلم هو من تعلم اموراً لم تخرج خارج اطاره الفكري الذي اعتاد عليه منذ صغره. فهو كلما زاد من العلم زاد تعصبه . فهو قد آمن برأي من الآراء أو مذهب من المذاهب فأخذ يسعى وراء المعلومات التي تؤيّده في رأيه وتحرضه على الكفاح في سبيله . أمّا المثقّف فهو يمتاز بمرونة رأيه وباستعداده لتلقّي كل فكرة جديدة وللتأمل فيها ولتملي وجه الصواب منها “[4].
إن المُتعلّم هنا ، هو من سيطرت عليه العادة الفكرية التي لا يستطيع ان يبدع فيها او يُميز بين ماهو صائب وماهو خاطئ .
يسوع والعادة
“اما انتم فليس الامر فيكم هكذا،بل ليكون الاكبر فيكم كأنه الاصغر” (لو26:22-27).
تُبين هذه الآية الانجيلية أنَّ يسوع لا يُشجّعنا على العادة السلبية والروتين والرتابة. ففي كل حياته، من الولادة الى القيامة، كان يسوع يسير عكس عادات المجتمع السلبية، وإذا استندنا اليوم إلى تعاليم الانجيل سنتصرف عكس عادات هذا العالم. فعندما نُصلي قانون الايمان نجد أنَّ هناك تفاعل وعمل جديد ومستمر، بعيداً عن العادة والتكرار ونجد هذا بالجُمل التالية: صار انساناً، صلب وقام وصعد الى السماء وجلس عن يمين الله .. . كل هذه الجُمل تُشدّد على دور الله المُتفاعل مع خليقته .
اذن يسوع يُكلمنا اليوم ويدعونا إلى ألا نكون تحت سيطرة عادات هذا العالم. كلُّ القديسين والمثقفين كانوا قد أشعلوا ثورة إبداعية في مجتماعتهم بعيداً عما هو متعارف عليه لذلك برزوا كمُخلصين لهذا المجتمع أو ذاك. فنجد أنّ يسوع يشفي المرضى في يوم السبت وهذا ما كان غير مسموح به عند اليهود . المسيح ابن الله خرج عن العادة عندما وُلِد في مذود متواضع بينما العالم كان ينتظره في القصور . مات على خشبة الصليب بينما العالم كان ينتظر منه ان يقود جيشاً جباراً. المسيح خرج عن العادة بروح المحبة، وأرسى تعاليمه بالوداعة وليس بالعنف. المسيح يدعونا اليوم الى ان نعيش بالروح وليس بعادات هذا العالم، لأن عادات هذا العالم تؤدي الى الجمود الروحي. ففي هذا الصدد يقول مونييه: ان العادات الحية ادوات للابداع، أما إنسان العادة فهو مريض يسير إلى الموت الروحي.
خاتمة
إنّ العادة خطيرة إذ تجعلنا غير واعين لما نفعله . فبعض المؤمنين اليوم يذهبون الى الكنيسة بدافع العادة . يفترض بهم ان يخرجوا منها مملوئين من المسامحة والفرح والغبطة، ولكننا نجدهم على العكس يخرجون من الكنيسة كأنَّ شيئاً لم يكن؛ يذهبون الى كرسي الاعتراف ويتناولون القربان ولا يحدث فيهم اي تغيير، فإنهم قد اعتادوا على هذا النسق لا اكثر ولا أقل. وفي هذا الاطار يصير الدين ايضاً عبارة عن عادة فما الفائدة من الدين والطقوس إن لم يرافقها الفرح والعطاء. “إن لم تقدنا الديانة الى النار، إن لم تقدنا العبادة الى الحب، إن لم تقدنا الليتورجيا الى ادراك اوضح للواقع، إن لم يقدنا الله الى الحياة ، فما الفائدة من الدين سوى خلق المزيد من الإنقسام، المزيد من التطرّف، المزيد من التنافر ؟ لا يعاني العالم من النقص في الدين بالمعنى المعتاد ، بل من النقص في الحب، النقص في الوعي. والحب يتولد من خلال الوعي لا من خلال أي وسيلة اخرى”[5] .
المراجع
جوزيف خليل، الطريق إلى الفلسفة، المكتبة البولسية، جونية، لبنان 2013.
هنري برغسون، المؤسسة الجامعية للدراسات و النشر و التوزيع، بيروت 1987.
عباس محمود العقاد، فرنسيس باكون، مؤسسة هنداوي للطباعة، مصر 2012.
علي الوردي، خوارق اللاشعور، دار الوراق لللنشر، 1996.
انطوني دو ميلو، اليقظة، دار المشرق، لبنان 2015.
[1] جوزيف خليل ، الطريق الى الفلسفة ، 63-64.
[2] هنري برغسون ، الضحك ، 25 .
[3] العقاد ، فرنسيس باكون ، 64
[4] علي الوردي، خوارق اللاشعور، 46 .
[5] انطوني دو ميلو، اليقظة، 241.
المقالات المنشورة على صفحات المجلّة تُعبّر عن آراء كتّابها، لا عن رأي المجلّة.
مكتبة الفيديو
- الطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل ملكي28 أغسطس، 2019
- حكاية القديس يوحنا الحبيب8 مايو، 2019
- سمعان الشيخ1 فبراير، 2019
- قصة القديس يوحنا الدمشقي4 ديسمبر، 2018
- الشهيد الطوباوي مار فلابيانوس27 أغسطس، 2018
أحدث المقالات
- من كتاب العمر لو حكىفي غير مصنف10 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من كلمات البابا فرنسيس للكهنة في استقباله تلامذة المعهد الكهنوتي الفرنسي في روما8 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- تأمّل – لأجل كلمتكفي تأملات4 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- من تحسب نفسك؟في تأملات1 يونيو، 2021لا توجد تعليقات
- اليوبيل الذهبي في العمل الرسولي للمطران مار يوحنّا جهاد بطّاح28 مايو، 2021لا توجد تعليقات
- غبطة أبينا البطريرك يحتفل بالقداس الإلهي ويرسم شمّاسين جديدين (الدرجات الصغرى)، حلب، سوريا22 مايو، 2021لا توجد تعليقات
أحدث التعليقات
- Rasha على فلسفة التجلي
- فؤاد نعمة على لمحة عن دير الشرفة
- حيدرعواد على لماذا اختار النبي ايليا 12 حجراً وقال استجبني يارب؟
- fr. daniel على سدرو الاحد الرابع بعد العنصرة
- الشماس موريس خوري على نصلي لأجل آباء سينودس أساقفة كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية
التقويم
ن | ث | أرب | خ | ج | س | د |
---|---|---|---|---|---|---|
« يونيو | ||||||
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |